Exit logo
نُصب تذكاري تخليداً  للأطفال الشوايا

نُصب تذكاري تخليداً للأطفال الشوايا

الجمعة 20 تموز

أحمد جاسم الحسين

__________

ما من كلمة في اللغة العربية يمكن أن تستفز طفلاً وُلد مصادفة في قرية فراتية مثل كلمة “شاوي”.

 لا يقل وقع هذه الكلمة على الأذن من وقع كلمة “سجن تدمر” عند كاتب قضى فيه سنوات، أو حسرة وزير سوري سابق حين يمر ببناء مجلس الوزراء في سورية، أو شعور ضابط تم تحويله إلى  التدريب الجامعي.

تلك حسرات سورية مكبوتة يمكن أن يعد منها السوريّ الكثير.!

ليست مفردة الشاوي كلمة عابرة في حياتنا نحن الذين خلقنا الله أطفالاً شوايا، ذلك أنها سجننا الذي لم نختره، كان علينا نحن الأطفال الشوايا أن نكمل بقية طفولتنا ونحن نصارع على جبهتين: جبهة داخلية أسرية مع سلطة الأب والمجتمع الشاوي، وجبهة خارجية مع الأطفال والشبان الذين لم يولدوا مثلنا شوايا.

على الصعيد الأول، كان علينا أن نقنع أهلنا أن التخفيف من مظاهر شاويتنا لا يمسّ اعتدادنا بأصالتنا المنسوبة إلى القبائل التي ننتمي إليها، وكان يتجسد عبر مظاهر كثيرة أبرزها أربعة:

 المظهر الأول له علاقة بما نلبس وذلك أن نخفف من لبس الكلابية، ونتجه نحو لبس البنطال، وكانت هذه تواجهها صعوبات مالية واجتماعية ليس أقلها الاتهام بالتخلي عن الزي المحلي المعتمد وعدم توفر ميزانية داخل الأسرة لشراء بنطال وقميص وحذاء مناسب.

 والمظهر الثاني مظهر لغوي، وهو أن نتخلص من نطق القاف غينًا وهذه كانت أكبر معضلة في حياتنا، شخصياً يعود الفضل في التخلص منها إلى فتاة دمشقية أحببتها في السنة الجامعية الأولى، فبعد أن عجز كل أساتذتي في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة عن تعديل اعوجاج لساني، وحده الحب والرغبة في التقرب من “الحبيبة” عدّل لساني، وكانت هي ترى في شخصيتي حالة طريفة بما أحملُ من عادات وطبائع فطرية تحتاج إلى رعاية وتقليم.

كان من العبث الحديث آنئذ عن أن بعض لهجات العرب تجيزنطق الغين قافاً، وأن ذلك يدخل في باب غنى اللغة العربية، فالشعور بضرورة التزام أبناء الأرياف بالمعيار المنبثق من المدن الكبرى هو الذي يحكم لباسنا وعاداتنا والكثير من قناعاتنا، لذلك فقد الريف السوري خلال فترة قصيرة معظم عاداته وتقاليده في ظل مسيرة التحديث!!!.

والمظهر الثالث التآلف مع شفرات الحلاقة القديمة، التي سبق أن استعملها آباؤنا فترة طويلة في حلاقة ذقونهم، إذ سيجرب الآباء تلك الشفرات القديمة في حلاقة شعر رؤوسنا منعاً لوجود القمل، وبحجة حديث منسوب للرسول العربي (النظافة من الإيمان) فقدنا جمال شعرنا في تلك الطفولة المعمدة بالحرمان، لا أذكر أن والدي يحفظ حديثًا سوى هذا الحديث من أحاديث الرسول، كانت (النظافة من الإيمان) تعني حرماني كطفل من حق تسريح الشعر حتى الصف التاسع، كان علي أن أبقى أقرع الرأس سنوات. كان وجود القمل إشارة عار كبيرة على الطفل، وحين وصلتُ هولندا كان من ضمن الاشياء التي جعلتني أعشقها وجود يوم لتفقيس القمل، يذهب فيه الملك شخصياً للمشاركة، الله ما أجمل الحرية وعدم الشعور بالعار!!!

أما على مستوى الجبهة الخارجية، المتثملة بالمعاناة خارج البيت والبيئة الشاوية، فلا حلّ لها سوى القبول بالمغفرة والتخلي عن المطالبة بالحقوق، مع ما يعنيه ذلك من تراكمات نفسية طويلة الأمد، وكانت لهذه المعاناة مظاهر عدة:

أولها أنني كـ ( طفل شاوي) عليَّ أن  أقف في الخلف دائمًا، كان ممنوعًا علينا نحن الاطفال الشوايا أن نقف في مقدمة الدور، أمام مؤسسة استهلاكية أو أمام مخبز، لا بد من التآلف مع أن مجيء أيّ طفل سفيه من أبناء المدينة التي نسكن بجانبها يعني له الحق في أخذ مكاني في الدور، وإنْ اعترضتُ فيمكن أن أعود إلى آخره مترافقًا ذلك مع إمكانية التعرض للكمة أو صفعة.

وثانيها كان غفرانًا رياضيًا، فامتناني لاتحاد كرة القدم يومها حين نقل إحدى مباريات الفتوة مع جبلة إلى ملعب مدينة “الميادين” كـ عقوبة له، ذهب هباء، وجرمُ سرقة ثمن بطاقة المباراة من جيب كلابية أبي راح عبثًا،  فالشبان (الشبيحة) الذين كانوا يقفون هناك عند أبواب الملعب منعوا كل من يلبس كلابية من الأطفال الشوايا من الدخول للملعب.

وثالثها: كبتُ رغباتنا إذا حدث وأعجبنا بفتاة من بنات المدينة التي نسكن بجانبها، فالانتماء لبيئةٍ – إمكانيةُ بقاء الحب فيها حيًا في حالة واحدة فقط أن تكون نهايته الزواج – منعَنا من إمكانية الإعجاب  بصبايا المدينة اللاتي كنّ يلبسن بنطال الجينز الشهير، فاستحالة حدوث فعل الزواج بين بيئتين هذا جعل طموحات الاختيار أو الإعجاب رهينة فتيات شاويات فقط .

ورابعها: التآلف مع الاضطهاد في فترة ألعاب عيدي الفطر والأضحى، التي ننتظرها كل عام، ونجمع ما نستطيع من بقايا تبن البيدر لبيعه كي نوفر إمكانية اللعب في تلك المراجيح الكبيرة والدويخات الخطيرة، كان الرجال الذين يديرون ألعاب العيد مع مساعديهم من مراهقين يعرفون وجوهنا جيدًا، يؤخرون دورنا في اللعب، أو يحشرون عدداً كبيراً من الأطفال الشوايا في مقعد واحد،  بحيث إن ضيق المكان يقضي على بهجة الفرحة باللعبة، دعك من الشعور بالنقص نتيجة عدم مرافقة أهلنا لنا والنظر إلى هذا النوع من الألعاب على أنه جزء من العار  الذي كان يسم الكثير من تفاصيل حياتنا.

كانت ولادتنا أطفالًا شوايا وشمًا لا يمكن أن تمحى معالمه،  ولم تتح المدن الصغرى لنا إمكانية التحايل عليه أو التخلص منه، فمحو الأثر بلغة الفلاسفة، لم يكن متاحاً لنا، ذلك لأن شيئاً ما في وجوهنا أو طريقة مشينا يدلّ علينا.

حين وصلت هولندا أول ما فكرت بإنشائه هو منظمة تهتم بالأشخاص الذين ولدوا أطفالاً شوايا، لا أظن أنني يمكن أن أشتغل على هدف أنبل من هذا الهدف، فمثلما توجد منظمات للاهتمام بمن شارك في الحرب العالمبة الثانية، أو عانى من الرق، أو العنصرية؛ يحق لنا نحن الأشخاص الذين كانوا أطفالًا شوايا الدفاع عما تعرضنا له من ظلم وعنصرية استمرت لعقود أنْ نلملم جراح طفولتنا.

 ولا أحسبُ أن كلَّ قدراتنا على التجاوز والمغفرة والنسيان تستطيع أن تزيل مقدار الاضطهاد الذي تعرضنا له في مسار طفولتنا وشبابنا من استعمال كلمة “شاوي” كرمز للتخلف والجهل والنقص والعار والموبقات.

 كنت أحسبُ وأحلم بأن الثورة السورية ستنتصر بالمفهوم المباشر للانتصار، أي أن يسقط النظام الحالي والديكتاتور، وأن نتخلص من التعمية بحجة الوطنية والحفاظ على التكاتف، وعدم تسمية الأشياء بمسمياتها، كان حلمي أن أقيم نصباً تذكارياً رمزياً للأطفال الشوايا.

أضع في خزانته دفترًا يدوّن فيه كل أولئك الأطفال الضحايا حكايات الاضطهاد التي تعيش في رأسي منها ألف حكاية وحكاية، لا لتنمية أحقاد، أو ضغينة، بل للتعرف إلى جزء من تاريخنا الوجداني الذي لم يلتفت ولن يلتفت إليه مؤرخو الإنجازات.

Do NOT follow this link or you will be banned from the site!