Exit logo
قهر الرجال

قهر الرجال

الخميس 27 أيلول

 عبد الرزاق المصطفى

***************

وقف العم أبو عبود طويلًا ينتظر بين صفوف الناس الذين يقفون على المعبار، بلباسه العربي الأصيل الذي رفض أن يتخلى عنه رغم كل متغيرات الحداثة الطارئة عليه أثناء أسفاره، والتي ابتعد بها عن مدينته الحبيبة. محرمته البيضاء وعكاله الأسود العربي الجميل  شاهدان على تاريخ شعب عانى ماعاناه من ويلات سابقة في حقب زمنية وويلات حاضرة، ومن يدري قد يكونا شاهدين على الكثير من الأحداث المقبلة.

وصل دور أبو عبود بالعبور، فكان المعبار من قرية رطلة جنوب النهر  باتجاه طاوي رمان شمال النهر، حيث المكان إلى مدينة الرقة المنكوبة. كان أبو عبود متلهفًا لرؤية مسقط رأسه، بيته وحارته وكل شئ كان بنظره جميلًا، لم يكترث لخطورة القارب الصغير الذي يقل أكثر من عشرة اشخاص وهو مخصص لأربعة فقط، فأخذ القارب بالتأرجح ليعلن بداية رحلة العبور إلى الضفة الاخرى، وأخذت تتأرجح معه كل ذكريات أبو عبود. راح يتذكر محله الصغير الذي يقطن بطرف الحارة بجانب مدرسة الحي، يتذكر شارع القوتلي وأصحاب عربات الخضار عند تقاطع سيف الدولة، يسترجع نزلة المتحف ومكتبة الخابور أقدم مكتبات الرقة، تتراءى له محلات العجاوي وزهراب وسينما غرناطة.

خريطة ذكريات أبو عبود وصلت إلى مدرسة الأرمن والدكتور طاويت وعيادته القديمة، وباب بغداد وسور الرقة الشامخ شموخ أهلها، وفجأة توقف التأرجح ليعلن نهاية رحلة العبور ويقطع شريط الذكريات. أخذ الركاب يتدافعون للنزول إلى البر، وبقي أبو عبود كآخر المترجلين. كان هناك عدد من الدراجات النارية تنتظر الركاب لتقلهم إلى وجهاتهم في الأحياء التي يسمح بعودة المدنيين إليها.

اتفق أبو عبود مع أحد سائقي الدراجات النارية ليقله إلى باب بغداد، والتي ما تزال تمثل نقطة حرجة بالنسبة للمدنيين. وعلى الفور انطلقا لتبدأ رحلة الصدمة، كانت الحواجز في كل مكان، عربات مدرعة وحرس وتفتيش، بدت أجواء الحرب مخيمة على المكان بأسره.

وصل أبو عبود إلى منتصف الشارع العام، قبالته باب بغداد ما يزال شامخًا باقيًا كأحد أهم رموز البلد. ترجل من الدراجة النارية، فيما كان سائقها يوكد عليه: “عمي دير بالك أنا حدي لهون وبس، لا تمشي إلا على الطريق المديوس، وانتبه من الألغام”. بدأت الرحلة تتعقد ووجه أبو عبود لا يُفسّر. تغيرت كل ملامح المكان، حتى فرن الحارة لم يبقَ له وجود، بناية أبو احمد سويّت بالأرض.

اقترب أحد شبان الحي من أبو عبود قائلًا: دير بالك عمي جدامك كلها ألغام”، لم يكد الشاب ينهي كلامه حتى كان دوي انفجار كبير مجهول المصدر يصم الآذان، فأردف الشاب: “شفت عمي”،  لم يعد العم يعرف أين هو، كل ما يحيط به مدمر، واصل مشيه وهو يحدث نفسه: “بلد صار بدها حلم تا ترجع مثل أول”، تابع  أبو عبود خطاه آملًا أن يرى بيته الصغير ودكانه المتواضع على مايرام، وصل مدخل الحارة فشاهد مجموعة شبان لم يتعرف منهم أحدًا، بلغ بيته أخيرًا دون أن يتمكن من تصديق أن منزله تحول إلى كتلة من البيتون وبقايا الباب. أخذ يتأمل ما يرى وهو يفكر ما الذي سيقوله لأم عبود إذا سألته عن ذكريات أربعين سنة.

ما الذي سيقوله لشريكة عمره عن كل زاوية وكل حجر بنياه سويًا، عن ذكريات حلوة ومرة، عن فرحة ودمعة، ما سيخبر أبناءه الذين ولدوا في هذا الحي وعاشوا غرامياتهم في دروبه، وفيما هو يتأمل هذه المشهد المؤلم وعيناه مغرورقتان بالدموع، إذ بجاره أبو حسين يصيح له من بعد “الحمد لله على السلامة أبو عبود.. العوض على الله.. المهم أنت بخير”. هرول الرجلان باتجاه بعضهما وتبادلا أحضانًا حارة وهما يجهشان ببكاء يختصر معنى عبارة “قهر الرجال”.

 

Do NOT follow this link or you will be banned from the site!