Exit logo
دير الزور.. عن مدينة عشقناها

دير الزور.. عن مدينة عشقناها

الثلاثاء 16 تشرين الأول

 أحمد جاسم الحسين

 ——————-

أهم صورة راسخة  لمدينة دير الزور في ذهن معظم أبناء ريفها  تكمن في وجود مصور عند الجسر المعلق يمكن أن يصوّرك ويقدم لك الصورة فوراً، كان عالم الصورة الفورية في الربع الأخير من القرن العشرين ليس أقل أهمية من أي حدث يمر في حياتنا اليوم يتعلق بنوع جديد تعلن عنه شركة آبل أو سامسونغ، ولمن لا يقدر على دفع ثمن تلك الصورة، قد تكون مراقبة المصور وهو يلتقط الصور للآخرين مرات ومرات الحدث الأهم في حياته الشخصية، ومادة هذه الصور الفورية عريسان جديدان، أو أصدقاء قادمون من الخليج لزيارة أهلهم، أو شخص مصاب بـ”حب الذات” ضحى بهذا المبلغ الكبير من أجل صورة فورية، تترافق دهشة هذه الصورة بسحر الجسر المعلق والمتعة التي ترافقنا حين نزوره أول مرة، كيف لجسر يخصص للمشاة فقط؟ لماذا لا تعبره السيارات، ألا يمكن لهذه الحبال التي تمسك به أن تنقطع؟ فكل الحبال التي مرت في حياتنا تنقطع، ابتداء من حبل البقرة وصولاً إلى حبل الحمار حيث نقضي أوقات طويلة في الركض خلفها لنربطها مرة جديدة، فكيف لحبال هذا الجسر الساحر أن تبقى صامدة؟

أهداف المراهق مختلفة حين يزور الجسر المعلق فهو من أكثر الأمكنة التي تأتي إليها الصبايا للمشي، حيث تكون الفرصة ذهبية لاختطاف نظرة أو أكثر من نظرة، ربما لقاء عابر مع آخر، قد تكمل خطوة في علاقات خارج سياقها الاجتماعي،  دعك من شارع ستة إلا ربع، الذي كان يجذب أحدث الموضات وازدحام المشي فيه، والذي يكون مسرحاً للقاءات عابرة أو مخططة تحاول أن تعاند السياقات الاجتماعية المحيطة، أو انتشار تدين الفضائيات الذي بات يضيق على الناس تفاصيل حساتهم اليومية ويحشر أنفه في كل حركاتهم، بعيداً عن حالة التمعن والاختيار.

 كان هذا النشاط الاجتماعي المسائي يحرم منه أبناء الريف خشية انقطاع وسائل المواصلات ليلاً، عندها يغدو البحث عن بيت قريب، أو صديق قديم حلاً معتاداً مما يجعل بيت هذا القريب معنياً باستضافات غير محسوبة تكسر نمط حياة الأسرة، وقتها لا يمكن أن تكون حجة (التمشاية) مقنعة، بل لا بد من حجج أخرى من مثل تصليح محرك ماء، أو تأخر الباص في القدوم من حلب!

هذا الذي جعل قلوب أبناء المدينة وريفها “تتشلع” حين تم قصف الجسر، فالأمر أبعد من رمزيته السياحية أو الأثرية، الجسر كان كتاب ألف ليلة وليلة، فيه آلاف الحكايات والذكريات، كان خزان حكايات معلنة وسرية!

ما كانت تمنحه دير الزور لأبناء الريف المحيط بها من كل الاتجاهات وعبر مسافات نصف قطرها 100 كم هو مساحات من الحرية لا تتيحها قراهم وبلداتهم الصغيرة، هذا إضافة لمركزية الكثير من الخدمات التي تركت محصورة في المدن الكبرى في سوريا.

مساحات الحرية تلك ملائمة لأحلام الكثيرين منهم، حيث تبقى فضاءات قراهم ماثلة في عيونهم، إذ قد يلتقون بمن يعرفون في كل حارة أو زقاق، أما الحالمون بفضاءات أكبر فيلجؤون إلى المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، حيث قد يصرفون كل ما جمعوه خلال موسم من التعب والإجهاد للعائلة كلها خلال أسبوع واحد.

أول علامة من علامات أنك في مدينة ولست في قرية أن تكون المدينة كبيرة، فلا تقطعها مشياً بل عبر حافلات تسمى “نقل داخلي” لا نراها إلا في دير الزور، حيث يحشر فيها الناس ساعات الذروة، وتكون خير مرتع للنشل الذي تمارسه شلل وعصابات بحق الدراويش القادمين من الريف، كونهم ضحايا لا يستحقون الكثير من الغلبة، فالخبرة في الحذر من النشالين حصَّنت أبناء المدينة منهم، ولذلك كان أهم تحذير ينتشر آنئذ، أن يحذرك أهلك من الصعود فيها، كان عالم باصات النقل الداخلي مدهشاً، حين نكتشف أن المسافة التي يقطعها باص النقل الداخلي يمكن قطعها مشياً، كنا نستغرب لماذا يصعدون في تلك الباصات والمسافة قصيرة؟ وترافق ذلك باكتشاف مفهوم البطاقة والسعر الثابت بغض النظر عن المسافة، كان أمراً مدهشاً كيف تكون التسعيرة نفسها لمسافات مختلفة؟

كنا نتصور دير الزور أكثر من صورة باريس في ذهن رجل شرقي، فـدير الزور كبيرة تمتد من حافة الجبل إلى النهر وما بعد النهر، كانت طويلة من “هرابش” إلى “الجورة”، وإذا كنت تملك نقودًا فقد تطلب تاكسي، مع تحذير شديد من الاستغلال، ثمة علاقة خوف بين المدينة والقادمين إليها، خوف من النشل وخوف من نمط العلاقات الاجتماعية، هنا كل شيء مختلف، فقد تصبح أنت مادة للنكتة، وقد يضربك شخص لا تعرفه من قبل، يجب أن تكون حذرا في كل خطواتك، الحذر في كل شيء، حذر قد يكون جاء من صورتها في ذهن والدك الذي حكى لك عن تجاربه وتجارب أصدقائه معها، لابد من الاتفاق مسبقاً في الطعام والشراء وأجرة التكسي!

صورة واحدة لكتلة بشرية واجتماعية اسمها مدينة دير الزور، يكتنفها الحذر والخوف وعدم الشعور بالأمان.

من خَبِرَ المدينة صارت صديقة له، ثمة مفردات في هذه المدينة لمن عرفها أزال كل تلك الحواجز من رأسه وتحولت العلاقة إلى علاقة صداقة، قد تبدأ من وجوه سائقي التكاسي، وتنتهي في الجراديق، حيث أول مكان يتيح لك أن تشرب وتأكل دون رقيب اجتماعي!

ناس هذه المدينة يتسمون على القدرة على الفعل في دوائر الحكومة، هنا تتساوى الكتلة البشرية لتأخذ صورة نمطية لها علاقة بسلطة النموذج، القادر على ارتكاب المعجزات، فدوائر الحكومة لها لغة ودهاليز وأنفاق لا أحد يعرفها غير أبناء هذه المدينة، فيكتسون قدرات من الفعل والقدرة على مخالفة القانون في عدد كبير من المناحي، فكل أنواع الحصار الذي يعيشه أبناء القرى والبلدات الصغيرة تكتنفه الحرية هاهنا، وثمة قدرات على الدخول في كل عالم المحرمات والنفاذ منه، هنا صورة النموذج تدير رأسها عن الواقع، لا وقت للنقاش فصورة النموذج هي الأقوى.

كانت دير الزور مدينة كبيرة في رؤوسنا ومختلفة جداً عما اعتادت عليه عيوننا، دير الزور لديها القدرة على إذابة من حولها بها، فكل أقاربنا الذين سكنوها تحولت لهجتهم من لهجات تلك القرى، ريفيون يشكلون أكثر من نصف سكانها، استقروا بها بحثاً عن عمل أو مساحة أكبر من الفعل، أهم علامات انتمائهم مفردة (شكون) ولفظ حرف القاف من حالة مخففة بين الكاف والقاف إلى قاف صحيحة، وكما علمنا من أقاربنا فإن أحد علامات الشعور بالقوة هو أن تصبح لهجتك ونطقك للكلمات مشابهاً لسكانها، لا يعني ذلك أنك أصبحت منهم، لكن هو علامة قوة، تضع حداً للكثير من عوامل الشعور بالغربة أو البساطة التي يمكن أن يوسم بها القادم الجديد، لا تزيل الفروق الاجتماعية بين حي على الأطراف وحي في وسط المدينة، لكنها مرحلة جديدة من مراحل الانتماء.

تتيح دير الزور حرية اختيار اللباس، فأنت أول مرة تخفف من أهمية الحكم الاجتماعي نحو حضور الخيار الفردي، لأول مرة تمشي في شارع قد لا يعرفك الماشون فيه، أو قد تأكل وجبة دون أن يعكر مزاجك أحد بأنك لا بد أن تدفع عنه، وأنت ليس لديك السعة على القيام بذلك، أول مرة يكون أمامك باقة من الخيارات والتعدد، إنها حرية المدن التي تعلق كثيرون بطعمها فجاؤوا للسكن فيها أو يقومون يزيارتها أسبوعياً!

لا يكاد شاب من ريف دير الزور إلا وزار المدينة مرة من أجل الحصول على (لاحكم عليه) كان هذا اللاحكم عليه حالة عجيبة، لا نعرف لماذا تصر (الجهات المختصة) على أن يحصل عليه الشخص بنفسه، فهل يمكن لمن ارتكب جرماً أن يأتي للحصول على الورقة وسيتم اعتقاله! لم نصل بعد إلى أي قناعة بالسبب الذي يجعلهم يصرون على أهمية تلك كالورقة، أو لماذا يجب أن يكون الشخص شخصياً موجوداً، ففي كل قرارات حياته ينوب عنه أحد ما، أو يفوض أحد ما للتحكم في مصير تفاصيله، ونسمع عن حالات اسمها تشابه أسماء اعتقل بناء عليها كثيرون وعانوا ما عانوه حتى تبين أنهم ليسوا المعنيين!.

كنا نتغلب على رهبة المدينة بالجماعة، فيندر أن تتم زيارة المدينة دون مرافق من الأهل أو الأقارب أو الأصدقاء الأكبر سناً، فالتقدم في العمر أهم عوامل الحماية، فعلى الرغم من الصورة الملتبسة للمدينة في أذهان سكان ريفها إلا أن كبار السن فيها غالباً ما يقابلون بالاحترام، والذهاب ضمن فريق إلى هذه المدينة يشعرك في القوة، فمن يريد الإيقاع بك قد تكون حساباته مختلفة إن كنت مع جماعة، هؤلاء الذين سيوقعون بك، قد يكونون موجودين في الواقع وقد يكون وجودهم سردياً.

لا بد أن يكون معك سلاحك إذا كنت ذاهباً إلى المدينة، فإن كان معك مسدسك المرخص هذا شيء رائع، أو خنجر تخفيها تحت لباسك، أو في أضعف الحالات (الموس الكبّاس) لا تستعمل أياً من هذه الأسحلة، لكن يكفي أن تهش بها أو تشير ليبتعد عنك المجرمون الافتراضيون، الموس (الكبّاس) وطريقة فتحه السحرية كان معبر رجولة لا تتحقق بغير السلاح!

ثمة صورة القدرة على الفعل والمهارة لأطباء تلك المدينة في ذهن أبناء الأرياف، فكل الأمراض المستعصية في الريف قد يكون حلها في المدينة ها هنا، وهنا في دير الزور لأول مرة في حياتك قد تجد أطباء منهم من يقول لا أعرف تشخيص المرض! وقد يقترح عليك أن تأخذ طفلك إلى دمشق أو حلب لأن هناك أجهزة كشف حديثة، وغالباً ما يكون خلف تلك النصيحة مرض خطير لم يشأ الطبيب التعبير عنه ليمد أهله بطاقة من الأمل أو لعدم تأكده من التشخيص! لا بد من صديق من دير الزور أو قريب تتواصل معه، وهذا الصديق هو بوابتك نحو المدينة في مراجعة الأطباء ، وفي إنجاز معاملة في دائرة حكومية، وقد يسكن في بيته ابنك أو يستأجر غرفة إن درس في المدينة بعد البكالوريا أو قدم البكالوريا(حرة) فالمركز الامتحاني لا يوجد في غير تلك المدينة! وقد يكون سكن ابنك مدخلاً لزواجه من ابنة صاحب البيت!

شهدت العلاقة بين أبناء ريف دير الزور وأبناء مدينة دير الزور (وهم قد يكونون من عشيرة واحدة) شكلاً من أشكال العلاقات الاقتصادية الذي لم تدونه الكتب والأبحاث،  حيث يكون ابن الريف مادة للمأكولات من أجبان أو سمن أو لحم أو خضار طازجة، وطرف المعادلة الثاني هو أبناء المدينة الذين يكونون بوابة معرفة للدخول إلى المدينة واكتشاف دهاليز دوائرها الحكومية واستثناءاتها، والمساعدة في قضاء تفاصيل حياتية، نوع جديد من أنواع الاقتصاد الذي تفرضه مرحلة من مراحل تشكل الدولة.

Do NOT follow this link or you will be banned from the site!