Exit logo
الجمى .. ذهب الصحراء الفراتية

الجمى .. ذهب الصحراء الفراتية

الجمعة 08 آذار

فادي بعاج

—————-

تختلف المسميات تبعا للهجات العربية بشكل عام، لكن في دير الزور والرقة ، يسمونه الأهالي بلهجتهم الجميلة “الجمى” ويفرحون بهذا اللفظ، هي “الكمأة” باللغة العربية الفصحى، هي خير الله الى العباد، ونوع نادر من أنواع الفطر، غذاء لا يستلزم زراعة أو تربية، بل كل ما يحتاجه هو الأمطار الرعدية على أرض قاحلة زراعية، وما أكثرها في مناطق شرق سورية، “الجوّلة” أو “البريّة” كما يحلو للديريين تسميتها، وهم يقصدون بها صحراء الدير، في هذا الوقت بالتحديد بدأت “الجمى” بالظهور، ويحمد الأهالي هذا العام أن وجودها جيد وبكثرة تبعا للأمطار الرعدية التي هطلت في الأشهر الماضية، لكن ظهورها يستلزم كما معروف الحفر على عمق قدما في الأرض والبحث عنها، وهناك من لديه الخبرة الكبيرة في ايجادها، مثل تتبع انشقاقات التربة وشم الأرض ايضا ، وكان هناك في السابق أشخاص يمتهنون “حوش الجمى” وبيعه بالأسواق، حيث ليس من السهل ايجاده، وكان يدعى الشخص المحترف بذلك بـ “الجماي” ، وكانوا وهم يبحثون عنه يغنون المولية الفراتية، ويألفون أبيات خاصة للكمأة، أحداها تقول:

جماي و ماني جماي درب الما اندليتو        و الله هواي عذّب كل العمر داريتو

في الأعوام الماضية حُرم الأهالي من هذا الغذاء كون المعارك كانت محتدمة بين الأطراف المتقاتلة، وكان من الخطورة الذهاب إلى “الجولة” وقضاء ساعات في البحث واستخراج “الجمى”.

بالطبع هناك الكثير من السوريين لايعرفون هذا الصنف الغذائي، ولا يعرفون كيف يطبخ أيضا، هي خبرة اكتسبتها النسوة في المنطقة الشرقية، يتتفنن في طبخه، والكثير منهن يقول أن لايجب أن تطغى أي من التوابل أو الطعمات على مذاق “الجمى الأصلي” ، واشهر صنفين يقدم بهما هذا الغذاء الرائع، الأول “مقلوبة” مع قطع اللحمة الصغيرة مع الأرز، والصنف الثاني يطبخ مع اللحمة والسمن ويؤكل بـ “التغميس” بخبز التنور الديري الشهير.

قد يظن البعض من القراء أن هذا المكون محصور عربيا وتحديدا في شبه الجزيرة العربية، ولا يعرفه الغرب، على العكس هناك من يعرف قيمته أكثر منا نحن العرب، ويتم استخدامه في تحضير الأطباق في أشهر مطاعم العالم، وبعض أنواع “الجمى” وتحديدا الأبيض الأوروبي وصل سعره في اسبانيا إلى ثلاثة ألاف دولار أمريكي للكيلو الواحد، ويتميز هذا النوع عن غيره باللون والطعم المختلف، وهو يباع في معرض مخصص سنويا، ولا يتم بيعه في المحلات العامة، وأيضا يعتبر موطنه الأصلي قرية ساريون التي تقع في شمال إسبانيا، والتي اصبحت معروفة بعاصمة “الكمأة الأبيض” حيث أسهم ظهور كميات كبيرة من هذه النبتة فيها إلى استقطاب مشروعات تنموية، وساعدت على ازدهار القرية اقتصاديا بعد أن كانت تعاني الإهمال لعدة عقود.

هذا المكون مفيد صحيا جدا حيث وصل العلماء في الغرب أنه يحتوي على نسبة عالية من البروتينات وأملاح البوتاسيوم والصوديوم والمغنزيوم، ويعتقد القدامى في منطقتنا أن “الجمى” يساعد على الشفاء من أمراض عدة.

كثيرة هي السنوات التي كان “الجمى” يصل إلى سعر عالي جدا يتخطى سعر اللحمة ذاتها في دير الزور، ويصعب على أغلب الأهالي متوسطي الدخل تناوله، لذلك تراهم يدعون الله بالأمطار الخيرة، حتى يطلع أكبر قدر من “الجمى”، اليوم يهرع الكثير ممن تبقى في دير الزور والرقة إلى المناطق التي يُعرف بظهور هذا “الذهب” الغذائي، لعلهم يجمعون مايكفي لطبخة يتلذذون بها صحبة أطفالهم، حتى لو طبخوها بدون لحمة كونها أصبحت من الاشياء الصعب شرائها لغلاء سعرها في هذه الأوضاع المعيشية البائسة على السوريين ككل، لكنهم هم سعداء حتى لو تذوقوه مسلوقا لوحده فقط، هم أهل النخوة والكرم الذين كانوا يقومون العزائم ويتفننون بطبخه وبعدة طرق، لكن الحال أوصلهم إلى الذهاب والبحث لساعات طويلة عن غذاء مجاني من السماء، من الله الذي أحن عليهم هذا العام بـ “الجمى” الوفير على أمل أن يأتي الخير والفرج على أرض الفرات التي عانت كثيرا في السنوات الماضية.

Do NOT follow this link or you will be banned from the site!