Exit logo
وصيةُ جدّي: لن تكون رجلاً ما لم تتزوج بأكثر من امرأة!

وصيةُ جدّي: لن تكون رجلاً ما لم تتزوج بأكثر من امرأة!

الأربعاء 29 آب

أحمد جاسم الحسين

 —————

كانت وصية جدي لي واضحة كالماء، بسيطة كرصاصة: “إذا كنت تريد أن تكون “زلمة” بعيوني فتزوج أكثر من امرأة”، حين أستذكر صورة جدي الآن، أخاف منها، فأنا بمفهومه حتى هذه اللحظة، لستُ برجل، وربما لن أصل إلى مبتغى جدي، أقول ربما!

العُرف الاجتماعي كان هو القانون الأكثر حضوراً في الحياة القبَلية، حين كانت القرى تهم بالانتقال من تلك المرحلة نحو مرحلة الاستقرار، وكان العرف الاجتماعي يقتضي من الرجل الزواج بأكثر من امرأة، بعيداً عن مفاهيم النسوية والجندرية، فإن الحاكم في مجتمع جدّي وربما مجتمع أبي هو: القوة العضلية وعدد الرجال، فمفاهيم الدولة لم تتشكل بعد.

كان جدنا يتأكد من أننا نحفظ أسماء أول ثلاثة وثلاثين جداً من أجدادنا، وأذكر أنني حفظتُ أسماء أجدادي قبل أن أحفظ أي جزء من القرآن أو القوانين، بصفة معرفة الأجداد كناية عن الأصل النبيل، وكان أحد مشايخ قبيلتنا يستطيع أن يعدّ الأجداد حتى نصل إلى معد بن يكرب الزبيدي، وقتها لم تكن موضة شجرات العائلة قد شاعت، خاصة في المناطق التي تنتمي إلى المشافهة.

ولا يمكن نسيان الفرحة الكبيرة حين يولد طفل “ذكر” في العائلة، فالتهاني والتبريكات مختلفة كلياً لو أن المولودة أنثى، كانت النساء تحتفل به أكثر من الرجال، لأسباب عدة، منها الخصوبة والقدرة على إنجاب الأطفال الذكور، ولا يشفع للمرأة أن تنجب الذكور من زواج رجلها بامرأة أخرى.

إن أحد عوامل الهيبة والتفوق العشائري أن يكون عدد الرجال في فخْذ ما كبيراً، وكانت النقود التي تقدم في التعازي تقسم على الرجال، والأعمال القوية على الرجال، والحروب بين القبائل على الرجال، توصيف ما كان يحدث آنئذ ليس إساءة للمرأة، بقدر كونه توصيفاً لأنماط الإنتاج ومن يقودها ومن يتحكم فيها، وهو بلا شك ينظر للمرأة بصفتها كائناً من الدرجة الثانية.

قد تكون المرأة مُشاركة قوية في صناعة الحياة اليومية في عوائل عدة، لكن المتحكم في الاقتصاد والقرار والمجتمع هو الرجل، ليس معيباً القول: إن المرأة في هذه المجتمعات كانت لا تعيش في الدرجة نفسها التي يعيش فيها الرجل، فتحضير الطعام والغسيل والاهتمام بالبيت مرتبط بها، ويسبقه فعل أمر، كان فعل الأمر أكثر الأفعال استعمالاً من الرجل تجاه المرأة، غير مسبوق ولا متبوع باعتذار للتخفيف من وطأته، وهي في الوقت نفسه لا تستعمل هذا الفعل إلا إذا كان من تتوجه له بالحديث من جنسها نفسه أو من الأطفال.

لم يخطر ببالنا نحن الرجال والنساء أن في الأمر مساواة وعدلاً، كان السياق الاجتماعي وما ولدنا عليه هو المتحكم الأكبر في مسارات حياتنا، ولا يعنّ ببال أحد الخروج على أعراف المجتمع وتقاليده، لأن المناقشة والحوار والتطوير ترتبط بالتعلم وهو ما كان غير متاح للأجيال السابقة، ولا مكان للحديث عنه قبل مرحلة الخمسينات بصفته ظاهرة اجتماعية وليس بصفة حالات فردية خلت منها منطقة الفرات كاملة عدا مراكز المدن بإطار ضيق، متمثلة في مركز مدينة دير الزور وبشكل أقل في كل من الرقة والبوكمال والميادين.

شكل الزواج الثاني أو الثالث أحد المداخل الرئيسية لإسكات صوت المرأة، صحيح أن السبب الرئيس هو البعد الاجتماعي والعمل في الأرض والتفاخر بعدد المواليد الذكور، لكن لا يمكن أن ننسى أن أحد أهداف الزواج الثاني هو توجيه صفعة للمرأة قوية الشخصية، وأذكر أنه رنت في مسامعي جملة غير مرة: (لا يعيد المرأة إلى صوابها مثل الزواج عليها)، كان يراد من تلك العبارة أن المرأة قوية الشخصية فقدت صوابها ولا يقصد بذلك العقل، بل إنها خرجت أو تكاد عن سياقها الاجتماعي، أي أن شخصيتها أقوى مما يسمح به المجتمع، وكان أحد معايير عدم الرجولة أن زوجة الرجل تتحكم بقراراته، وكان الرجل المتميز القوي هو الذي لا يشاور زوجته.

لا يخضع مفهوم الزواج في المجتمعات ذات الطابع القبلي لحسابات الزواج الحالية، فقد شهدتُ أكثر من حالة زواج مرت فيها مصادفة صبيّة أمام رجل، فأعجبته مشيتها مثلاً أو طولها أو إطلالتها، ولم تنته الجلسة إلا بعد قراءة الفاتحة، والاتفاق على المهر، وحين يعود الرجل إلى بيته وقد قرأ “فاتحة” المرأة الجديدة كان يخبر زوجته بكل هدوء وأمان، وبالتالي عليها أن تبارك له، وتخفي كسرات قلبها، بل وقد تكون كنوع من الديمقراطية تدعوه للنوم في السرير في ذات المساء كتعبير عن حبها له وأنها على ما عهدها من حبّ بغض النظر عن زواجه عليها.

أما الصبية التي وقع عليها خيار الزواج فلا يشاركها في الفرحة أحد، وقد حظيت بزواج سريع تفاخر فيه في صباح الغد رفيقاتها، وتشرع منذ اللحظة في تجهيز سيناريو فرح الأيام القادمة.

هذا جانب في أسباب تعدد الزوجات وهي أسباب لها علاقة بذكورة المجتمع، أو لقهر المرأة، أو الزواج بامرأة شابة، أو إنجاب الذكور، أو إرضاء لعشائر أخرى أو كسباً لرضاها كون إدارة الزواج موضوعاً اجتماعياً محضاً، ينفذه الفرد غالباً لأسباب اجتماعية مهما كان السبب الذي يقبع خلفه.

كان جزء من تكوين صورة الرجل الذي يعيش في المدينة والفرق بينه وبين الرجل الذي يعيش في الريف، أن الأول هجر مبدأ تعدد الزوجات وانشغل بمتع أخرى منها الطعام الجيد أو الاهتمام بزوجته وعائلته، وهو ما ليس بمركزي في ظل الحياة الريفية التي تتحكم فيها السياقات الاجتماعية.

يتسبب زواج الرجل بامرأة ثانية أو ثالثة… بحالات ظلم كبيرة منها: كسرات قلب المرأة الأولى، والإهمال الذي سيطالها نتيجة التقدم في العمر ومعظمه السبب فيه كثرة الإنجاب والإعياء الشديد، ذلك الإهمال الذي قد يصل إلى حد الحرمان من القيام بالحدود الدنيا من الواجبات الاقتصادية التي يجب أن يقوم بها الرجل تجاه زوجته، بل قد يصل أحياناً إلى مستويات أعلى.

النساء في المجتمع الفراتي في هذا الجانب غالباً رجالٌ في التصرف، ففي الوقت الذي تتذمر فيه المرأة من زواج الرجل عليها، قد تبيح ذلك لابنها بل تشجعه عليه، وهذا يمكن تفسيره في طبيعة البنية الذكورية المهيمنة أو التي تتحكم في تشكيل التصورات والقرارات لدى المرأة والرجل معاً.

لا بد من التأكيد هاهنا أن العامل الديني كان عاملاً مغيَّباً في معظم الريف الفراتي، لا حضور له إذا كنت أتحدث عن السبعينات وما قبل السبعينات…فليس في الأمر حديث عن سُنة الرسول، أو العدل، أو التكاثر لأسباب دينية، أو سوى ذلك، هذه تفسيرات وتأويلات لم تتسرب وتشكل حضوراً قبل مرحلة الثمانينات وبقي حضورها خجولاً أو ثانوياً حتى تلك المرحلة، وتدخل في إطار ما يسمى تسويغات المثقفين!

 أما المفاهيم المتعلقة بالنسوية والجندر فأحسبُ أن عليها قبل أن تطلق شعاراتها “الأوربية” أن تدرس السياقات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وتبحث في العوامل التي تجعل جدّي (رحمه الله) يقول حكمته في الحكاية التي سقناها في بداية المقال وأسباب عدم رضاه عني حتى اللحظ،  وأنني بنظره لستُ رجلاً، أما الحديث عن الفحولة والشهوة الخارجة عن السيطرة عند الرجل الشرقي فهي أسهل التفسيرات، بل أكثرها سطحية، ذلك أنني وجدت الكثير من الرجال الشرقيين هنا في أوروبا وقد استقرتْ أحوالهم الحياتية وخفّت سياط المجتمع عنهم يبحثون عن مُتع أخرى غير متعة الزواج الثاني، من مثل: تعاطي الحشيش، أو صيد السمك، أو البحث عن العمل بالأسود لجمع النقود، أو التفكير في طرق لاستعادة السيطرة والسلطة، أكثر من بحثهم عن طرائق جديدة لإشباع الشهوة الجنسية عبر الزواج الثاني أو غيره!

كل ما سبق الحديث عنه يدخل في باب الحديث عن ظواهر كانت سائدة، ربما تختلف من قرية إلى قرية اخرى أو من قبيلة إلى قبيلة أخرى، ذلك ان المجتمع الفراتي ليس مجتمعاً واحداً، بل مجتمعات لكل منها خصوصيته ونكهته.

 وفي هذا السياق جاءت وصية جدي متناغمة مع قطعة من قصيدة رياض الصالح الحسين “واضحة كالماء بسيطة كرصاصة”: لستَ رجلاً إن لم تتزوج بامرأة ثانية!

Do NOT follow this link or you will be banned from the site!