نُشر هذا المقال سابقًا تحت عنوان “هل ينقض السلام على الشاوي الوضوء”؟، وأثار العنوان سوء فهم غير مقصود أبدًا، حيث يحاول المقال تسليط الضوء على بعض آليات التمييز الذي تعرض له الشوايا. إن محطة “شوفي مافي” فضاء مفتوح لكل المكونات الاجتماعية في منطقة الفرات.

أحمد جاسم الحسين

——————

روي عن أحد مشايخ مدينة “دير الزور” ذات يوم أنه سُئل: هل صحيح أنك أفتيت بأن السلام على الشاوي باليد ينقض الوضوء؟

انزعج الشيخ والتف يمنة ويسرة نحو مريديه لائمًا قائلًا: أعوذ بالله أنا لم أقل هذا مطلقًا!

– إذًا ما الذي أفتيتَ به ياشيخنا؟

قال: أنا قلت إن السلام على الشاوي يدخل في باب المكروه؟

تشكل هذه السردية مدخلاً لقراءة إحدى صور مقاربة موضوع الانتماء العشائري والعائلي والمجتمعي في منطقة الفرات، ذلك أن التخلص من عار الانتماء لـ (الشاوية) يشكل مدخلاً لمقاربة جزء من تاريخ هذه المنطقة، ولذلك تسمع من أبناء هذه المنطقة مصطلحات عدة تشير إلى انتمائها منها: (ديرية، حَضر، شوايا، بدو، قبائل، صحراء، فراتيون).

وتقبع خلف كل مصطلح منها حكاية، وبعد معرفي، ورمزي، ومثل حركة المجتمع السوري الممتلئة بالتناقضات، يمكن أن نتذكر غربي الخط وشرقي الخط في درعا، والضيعجي في حمص، دعك من الإشارات المرتبطة بالطوائف بين اللاذقية وطرطوس مدينة وريفاً، وبين أهالي المعضمية وداريا مثلاً، وحمص وحماة.

صحيحٌ أنها تدخل في باب الطرفة، في مناطق أخرى، أو بصفتها بناء حكائياً، لكنها في منطقة الفرات كانت تبنى عليها أحكام قيمة، ووقائع، وسلوكات، وإشارات اجتماعية تقدم نبذة عن بنية المجتمع الفراتي.

وكل تلك الإشارات تقدم دليلاً على أن سوريا انتقلت إلى مصطلح (دولة) تسمية، ولم تنتقل إليه بناء اجتماعياً، إذ ظلت الانتماءات الصغيرة هي الأكثر حضوراً وخلف ذلك أسباب عدة.

يُسْأل أحد المثقفين الفراتيين: من أين أنت؟ فيرد، أنا بدوي! وهو يريد الإشارة إلى أنه يتمثل قيم البداوة، بقضها وقضيضها، وغالباً ما ارتبط الاعتزاز بالبدوية لدى أبناء قبيلتيْ شمر وعنزة، أما قبائل العقيدات والبقارة فقد دخلت في مصطلح الشوايا.، كناية أنهم تخلوا عن العادات البدوية وانتقلوا اقتصادياً إلى حياة الريف المرافقة لمصطلح الشاوي.

إن هذه الرغبة بالعودة إلى ما قبل مصطلح الشاوية انتماءً، تهدف إلى الترفع عن طور مدني سمحت به الحياة “الشاوية”، إذ بالمفهوم الواقعي، على من يقول: إنه بدوي أن يعيش نمط حياة البدو اقتصاداً وطعاماً ومأكلاً وملبساً، ويمكن أن نشير إليها عبر بيْت الشَّعر، وعدم الاستقرار، وأن يكون الاقتصاد معتمداً على الأغنام والإبل، إضافة إلى العادات البدوية مأكلاً وملبساً ومشرباً.

إذا رغب المتابع أن ينظر إلى هذا الطور بحثياً فيمكنه القول: إن مرحلة البداوة بالنسبة لمنطقة الفرات مرحلة سابقة على مرحلة “الشاوية” استقراراً، بل سميت حارات في الرقة ودير الزور والميادين بأنها حارات البدو، إشارة إلى أبناء قبائل أتوا من الصحراء واستقروا في أطراف المدن، لأسباب عدة أبرزها أن يعيشوا حياة مستقرة، ولكي يعلموا أبناءهم، إضافة إلى جانب اقتصادي مهم يتعلق بانقطاع سبل الحياة الاقتصادية القديمة.

مصطلح “الشاوية” يقصد به أبناء القرى في منطقة الفرات، ويعمم المصطلح ليشمل المدن الكبرى التي استقرت منذ فترة طويلة، مثل الميادين والبوكمال. وبالتالي فإنه يشير إشارة جغرافية، ويروي أحد الأصدقاء أنه لم يشفع له أن جده السابع كان حاكماً لدير الزور 1858-1861 ، ولم يشفع له كون أجداده من مشايخ قبيلة العقيدات في استعمال المصطلح ضده بصفته حالة “عار اجتماعي” من قبل أبناء المدن الفراتية المستقرة.

معرفياً، تعتز منطقة الفرات بالانتماء العشائري، غير أن ترتيبات العشائرية في منطقة الفرات تختلف، وأذكر أنه في المُلمَّات كان أقاربنا من مدينتي دير الزور والميادين يقاربون ما يحدث من مشاكل بطريقة مختلفة، تثير عجبنا من حيث (جبنها وبساطتها وميلها للحل السلمي) أضف إلى ذلك نوع المشاكل، ففي الوقت الذي تكون فيه مشكلة الأقارب من الريف تتعلق بقطعة أرض، أو شتيمة من أحد، وما تبعها من مشاجرة تصل إلى حد القتل، أذكر أن مشاكل الأقارب من أبناء المدن تتعلق بعدم السماح له بإيقاف (عربيَته) أمام محله، أو أنه يكش الحمام وينظر إلى بنات الجيران، أو كونه مدمناً وقام بتصرفات غير محسوبة.

في ريف حلب الشرقي/الفراتي، يحاول أحدهم التبرؤ من مصطلح الشاوي بقوله: أنا ابن عشائر، في إشارة مبطنة منه، إلى أن الشاوي، غير معروف الانتماء، أما في دير الزور فالشاوي هو كل من سكن الريف بما فيهما منطقة الميادين والبوكمال، وبالنسبة لابن مدينتيْ: الميادين والبوكمال هو كل من سكن القرى.

أضف إلى ذلك يرى أبناء القرى المجاورة للمدن أن أبناء القرى البعيدة يشكلون (أسنس الشوايا). وتشكل هذه التميزات جوهر وجود المجتمع الفراتي، ففي القرية نفسها، قبل التحولات الاقتصادية في السنوات الأخيرة، كان ابن هذه القبيلة أو تلك يرفض الزواج من ابنة قبيلة أقل شأنا اجتماعياً منه!

شكلت هذه التمايزات مادة حكائية لآلاف القصص التي تحاك يومياً مستفيدة من وجود الأرضية الفكرية والحكائية المستعدة للتصديق .

وبالتالي فقد ضاعت دلالة المصطلح، كونه مصطلحاً مائعاً، بخاصة أن المجتمع السوري مجتمع سريع التحولات، بل إن المصطلح إبان الثورة السورية قد اكتسب دلالات عدة منها البطش الذي تميز فيه العسكري (الشاوي)، وكذلك ارتباط الشاوي بمناصرة صدام حسين وكونه ضد الكرد، اعتماداً على مروية أن صدام رمز للعروبة، وأنه عاش جزءاً من حياته في منطقة الفرات، ومثل هذه النظرات العامة تضع الشوايا في سلة واحدة، ولا تُعنى بالاضطهاد الذي عانى منه أبناء ريف دير الزور من أبناء المدينة، وهو اضطهاد اجتماعي لا أظن أن التاريخ عرف مثله، كونه يرتبط بالاحتقار والتمييز العنصري في أعلى درجاته، مع أنه في الوقت نفسه، يكون لابن المدينة صداقات مع أشخاص من الريف، أو كون جزءاً من عمله أو جوانب حياته الاقتصادية تعتمد على ذلك.، أو يكونون من أقاربه ممن يسكن الريف.

النظر إلى المشهد العام يكشف أن تحولات المجتمع السوري وتشكيلات الانتقال من مرحلة الريفية إلى المدنية ترافقت مع حالات اضطهاد اجتماعي، وتقلبات سريعة، تشكل خير مثال على تشكل الدولة في الشرق، وهو ما لا تصلح معه النظريات الغربية المهمة إنسانياً التي تتحدث عن مفهوم الدولة بصفتها عقداً اجتماعياً بين مجموعات بشرية تتحقق فيها حدوداً دنيا من عدد من المشتركات.

لذلك في الوقت الذي تصلح فيه تنظيرات بعض الباحثين الأوربيين أو (المتأوربين) للحديث عن انقراض الطبقة الوسطى في سورية، أو مجموعة الأثرياء، أو سوى ذلك، نجد أن المتابع للوضع الاقتصادي أو السياسي لمنطقة الفرات سيجد مداخل أخرى لدراسة المنطقة، وبالتالي الحديث عن دولة أخرى، أو دول أخرى غير الدولة السورية التي نجدها في الجامعات أو ممثلة في الأمم المتحدة.